تحدثتُ في المنشورِ السابق عن أنَّ للهِ تعالى أسباباً سبقَ وأن سلَّطها على الوجودِ ليستقيمَ بها أمرُه، كما وأنَّ لله تعالى أسباباً أخرى يُسلِّطُها على هذه الأسباب أنى يشاء وذلك لينتصرَ بها لمَن يشاءُ من عباده.
وفي هذا المنشور سوف أتحدثُ عن بعضٍ من هذه الأسباب التي يتدخلُ بها اللهُ تعالى في حياةِ عبادِه الصالحين فيُسلِّطُها على أسبابِ الوجودِ وقوانينِهِ تسليطاً تستحيلان بموجبِهِ أدواتٍ عقيمةً فلا قدرةَ لها بالتالي على أن تفعلا في الوجودِ فعلَهما المعهود. فاللهُ تعالى تدخَّلَ تدخُّلاً مباشراً في حياةِ سيدِنا موسى عليه السلام منذ نشأتِهِ الأولى. فكلُّنا يذكرُ كيف أوحى اللهُ تعالى إلى أم موسى أن تُرضعَه وتُلقي به في اليم، وكيف حملَهُ هذا اليمُّ إلى آلِ فرعونَ، وكيف أنه تعالى حرَّم عليه المراضعَ فلم يُمكِّنهن منه، وكيف أنه ألقى عليه محبةً منه جعلت من فرعون الطاغية يرقُّ له قلبُه ويُشفِقُ عليه ويأذنُ لأخت موسى بأن تأخذه إلى مَن قالت إن بمقدورهم أن يتعهدوه بالكفالة والرعاية.
ولقد تجلى تدخلُ اللهِ تعالى في حياةِ سيدِنا موسى في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ نشأتِهِ ونموِّهِ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (14 القصص). ثم أنَّ اللهَ تعالى تعهَّدَ سيدَنا موسى بالتوفيقِ والهداية فكان أن يسَّرَ له من الأقدارِ الإلهيةِ ما تكفَّلَ بجعلِه يهتدي إلى مَدينَ وكان له فيها ما كان من صُحبةٍ وزِيجةٍ ومَكثٍ انتهى به إلى خروجٍ قادَهُ إلى اللهِ تعالى ليُصبحَ كليمَه ولتبتدئَ بذلك رحلةُ نبوَّتِه ورسالتِه التي صاغت مفرداتِها يدُ القدرةِ الإلهية فجعلتها تشتملُ على آياتٍ تدلُّ كلُّها جميعاً على ما تميَّزت به حياةُ سيدِنا موسى من صناعةٍ إلهيةٍ وذلك مصداقَ قولِه تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (من 39 طه)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (41 طه).
إذاً فلقد سلَّطَ اللهُ أسبابَه الإلهيةَ على أسبابِ الوجودِ وقوانينِه وذلك ليَصنعَ سيدَنا موسى صناعةً على عينِه تعالى، وليكونَ بذلك عليه السلام صنيعةَ اللهِ بحق.
